لدى الكاتب برنارد بيفو إجابة مثيرة للاهتمام على هذا السؤال والتي عرضها في كتابه”النجدة! لقد التهمتني الكلمات”. فبالنسبة لبيفو يُخطئ من يظن أن الكلمات وُجدت لخدمة الكتّاب والقراء وإشباع فضولهم وأهوائهم، إنما الكتّاب هم في خدمة الكلمات. وكذلك مخطئٌ هو من يظن أن الكتّاب هم المماليك على شعب الكلمات. فإنهم ليسوا إلا نمورا من ورق، لا يمتون بصلة الحكم شيئا . فإنهم مصاحبون ومنغمسون في الكلمات، تلك الوحوش الصغيرة التي شبهها بيفو بالعناكب لأنها تارة تبقى ساكنة وتارة أخرى تتسلق الجدران زاحفة من أعشاشها. كذلك يقول الكاتب الفرنسي” نعم، بالطبع، نحن نتذوق الجمل. نتلذذ بالنصوص. نشرب الأقوال. نلتهم الكتب. نحشو أنفسنا بالكلمات. القراءة والكتابة تزيد من التغذية. إنما الحقيقة هي مختلفة كليّا: إنها الكلمات التي تقضمنا، إن تركيب الجمل هو الذي يمضغنا. إن القواعد هي التي تأكلنا. إن الكتب هي التي تلتهمنا“.وما هي السيرة الذاتية والغيرية والرواية والمذكّرات والصحف غيرامتصاص وهضم حياة رجل ٍ أو امرأة؟
موهبة الكتابة
أحب بيفو الكلمات كثيرًا معتقدًا بأنها ما تدفعه للعيش ولكنها جعلته يعاني الصراع الأصعب في حياته ككاتب وهو اختيار الكلمات الأنسب. فكانت هذه العملية شاقة، متعبة ومنهكة. بحيث أنه اعتبر أن الكاتب العظيم فقط، هو من يستطيع الاختيارمن بين الكلمات الكثيرة والوفيرة، الكلمة الأنسب بحيث يعطيها شيئا من المعنى، من السحر، من القوة ومن الجمال. وأطلق على ذلك “الموهبة”. وشكل اختيار الكلمات لبيفو هواجس وأفكار عديدة فتساءل عما كان سيقوله لو وُلد وهو يتكلم بأعجوبة ! وسرح يتخيل كم كان سيحصد من الشهرة لكونه ينطق بالكلمات منذ ولادته بحيث أنه سيكون محاطًا بالصحفين ومنهم من سأله :” ألا تخشى أنه بتكلمك من هذه السن الصغيرة، ألا يبقى لديك ما تقوله فيما بعد؟”.
متاهة الكتابة
كذلك شكلت له النساء ومغازلتهن لغزًا محيّرًا فلم يكن هنالك من الكلمات ما يرضيهن. وبالإضافة إلى ذلك، جهز بيفو ثلاثة جملٍ ليختار منها كلماته الأخيرة على فراش الموت معتبرًا إياها من الكلمات الأهم في حياة الكاتب. وهذه ليست النهاية، فأظهر الكاتب حسًّا فكاهيًّا فريدًا أثناء الكتاب وخاصة بالفصل الأخير عندما راح بيفو يؤلف سيناريو لقوله للرب بعد الموت، كأن الكلمات لم ترحمه حتّى عندما انتقل للآخرة.
غاية الكلمات
ونتج عن هذا الواقع مأساة وهي صعوبة مشاركة وشرح صراع الكاتب مع الكلمات الذي يتضمن الأرق الذي عاناه بيفو في الليالي بسبب أصوات الكلمات التي تعبث بعقله سائلة إياه إذا كانت هي المناسبة، بالإضافة إلى خذلان الورقة البيضاء ومعنى النقطة في آخر الجملة الفلسفي، مع أناسٍ، تشكل لهم الكلمات وسيلةً للعيش والتواصل وليس الغاية بنفسها للعيش. كما ينظر بيفو للكلمات والكتب على أنها مخلوقات عاقلة، حية، تتنفس ولها طباع معين. وهذا ما عرفه منذ الصغر. فحين كان طفلًا يدرس اللغة الفرنسية، لاحظ أن الكلمات هي مثل الغنم تعيش وتتنقل دائما بالقطعان. إلا أن بعضها هي عنزات أو تيوس شقية تأبى أن تلتصق بذهن الكاتب ليحفظها. أما الكتب فكانت كالحلازين بنظر بيفو تنزل من السقوف لتستقر على الرفوف والطاولات وتحيط الناس لأنها لا تحب صحبة المكتبات. وهكذا، كانت تزيد من مستعمراتها بينما الكاتب يشيخ، متقدمةً ببطئ تحت أعذار الحضارة والتقدم… وكم من مرة خرجت الشخصيات الشريرة من صفحات الكتب التي خال أصحابها أنهم أغلقوها لتطارد بيفو في كوابيسه كأنها عرفت أنه كاتب وهي التي تكره الكتّاب وتلومهم على حقيقة وجودها البائس . حتى جاء اليوم حيث اتخذ قرار إزالة جميع الكتب والروايات من غرفة نومه!
قوة الكلمات وتأثيرها
وأخيرًا، عرف بيفو مدى قوة تأثير الكلمات فبعضها تقدس وتبارك والأخرى تقتل.وبما أن الكلمات تحيطنا في كل مكان، ففيها جمال ما تمثله كأسماء الزهور والعصافير وغيرها… ولكن حذّر الكاتب الفرنسي كذلك من الكلمات المحظورة ككلمتي الحرية أو الديمقراطية اللتين يمكن أن تتسببا بمقتل قائلهما.
وعندما خصص بيفو صفحة لشكر داعميه ومساعديه في كتابه، لم ينسى أن يشكر الكلمات.
اترك تعليقاً